أوكرانيا بين مطرقة ترامب وسندان روسيا- هل تبقى الضمانات مجرد وعود؟

المؤلف: جيرار ديب09.16.2025
أوكرانيا بين مطرقة ترامب وسندان روسيا- هل تبقى الضمانات مجرد وعود؟

انفضَّ الاجتماع بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض قبل أن يشتد أواره. فقد أفادت مصادر إعلامية أمريكية بأن اللقاء، الذي جمع الزعيمين يوم الجمعة الموافق 28 من شهر فبراير/شباط الماضي، كان حافلًا بالتوترات والعواصف، ولم يتمخض عن توقيع اتفاقية المعادن التي كانت متوقعة. فهل تبدَّدت الضمانات الأمنية التي كانت معقودة عليها الآمال؟

وبعيدًا عن تفاصيل اللقاء المشحون وتلك المناوشات اللفظية غير المعهودة، والتي أثارت استياء زيلينسكي ودفعته إلى المغادرة وهو يتمتم بعبارات الغضب، قائلًا: إن "ترامب استدعاه إلى واشنطن لإذلاله"، فإنّ دلالات الأحداث واضحة جلية، فكل ما تتوق إليه أوكرانيا هو ألا "تُلدغ من الجحر ذاته مرتين". لذا، فهي تطالب بضمانات حقيقية تتجاوز مجرد "الوعود" الترامبية، وتمتد لتشمل خيارات أخرى، وعلى رأسها الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو). أم أن لدى زيلينسكي ضمانات أخرى ينوي أن يفاجئ بها الجانب الأمريكي، وربما الأوروبي أيضًا، في حال استمرار الإصرار على رفض انضمامه إلى حلف الناتو؟

وقد صرحت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كايا كالاس، في مقابلة مع وكالة فرانس برس يوم الخميس الموافق 28 من شهر فبراير/شباط الماضي، بأن الضمانة الأمنية الأسمى لأوكرانيا تكمن في انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي، متهمة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالانزلاق إلى الفخ الذي نصبته روسيا من خلال موقفه الذي يدعو إلى إغلاق أبواب الناتو أمام كييف.

إن ما تفوهت به كالاس هو ما يجب أن يكون الهدف الأسمى والأخير لكييف من المفاوضات التي يسعى الجانب الأمريكي لفرضها بغية إخماد نيران الحرب المشتعلة في شرق أوكرانيا. ولكن يبدو أن تصريح كالاس ما هو إلا مناورة دبلوماسية في مواجهة التعنت الأمريكي في خوض مفاوضات وقف إطلاق النار مع روسيا بشكل منفرد، دون الأخذ بعين الاعتبار مخاوف القارة الأوروبية.

لذا، فقد حذرت من أن الأوروبيين لن يتمكنوا من تقديم المساعدة في التوصل إلى اتفاق سلام بشأن أوكرانيا ما لم يشاركوا مع الولايات المتحدة في المفاوضات التي استبعدهم منها ترامب عن طريق تفاوضه المباشر مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين.

من جهة أخرى، لا تتطلع أوروبا بشغف إلى ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، فهي في هذا السياق تعمد إلى ممارسة المزيد من الضغوط على الإدارة الأمريكية من أجل مراعاة مخاوف القارة على حساب المصالح الروسية. كما أنها تستفيد أيضًا من تهدئة حدة الحرب التجارية المستعرة مؤخرًا مع واشنطن، والتي تفجرت على السطح مع تهديدات ترامب يوم الأربعاء الموافق 26 من شهر فبراير/شباط الماضي بفرض رسوم جمركية بنسبة 25% على المنتجات الأوروبية، مؤكدًا عزمه على الكشف عن تفاصيل قراره في المستقبل القريب.

إن "خبيصة" هو المصطلح الأمثل الذي يمكن أن نطلقه على تلك الحرب الدائرة رحاها في شرق أوكرانيا، وما يحيط بها من نقاشات سياسية معقدة، والتي تترافق مع جولات دبلوماسية، كان أشدها وطأة على المُشاهد الأوكراني والأوروبي على حد سواء، تلك "المصافحة التاريخية" بين وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، ونظيره الروسي سيرغي لافروف، في الرياض في شهر فبراير/شباط الماضي.

كما أطلق الرئيس الأمريكي سيلًا من التصريحات الغريبة، وصف من خلالها الرئيس زيلنيسكي بـ "الدكتاتور"، زاعمًا أنه لا يحظى بشعبية، وكتب على شبكة التواصل الاجتماعي الخاصة به "ثروت سوشيال" أن نسبة تأييده قد انخفضت إلى 4%، وهذا هو السبب وراء عدم إجرائه الانتخابات الرئاسية في البلاد.

هذا ما دفع بـ "الرادا العليا" – البرلمان الأوكراني-، يوم الثلاثاء الموافق 25 من شهر فبراير/شباط الماضي، لإصدار قرار يدعم الديمقراطية في "ظروف العدوان الروسي"، مؤكدًا على دستورية بقاء زيلينسكي على رأس السلطة، برغم انتهاء ولايته الرئاسية في شهر مايو/أيار الماضي، على أن يتم إجراء الانتخابات الرئاسية بعد إحلال السلام المنشود.

"لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين"، عبرة يراد منها أن المؤمن يجب أن يكون حذرًا إذا ما تعرض للخداع من قبل شخص ما، حتى لا يقع في نفس المشكلة مرة أخرى.

وهذا ما ينطبق اليوم على موقف كييف من الصدمة السياسية التي أحدثتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي تجسدت في الدعوة إلى وقف الحرب في أوكرانيا، تحت شروط "مراعاة المخاوف الروسية". إذ اعتبر البعض أن مثل هذه الدعوة تعني الاستسلام الكامل لشروط روسيا.

ليست هذه المرة الأولى التي تحصل فيها كييف على ضمانات مشتركة روسية أمريكية وحتى أوروبية، والمرتبطة بعدم السماح لأي طرف بالمساس بأمنها القومي. فلقد كانت أوكرانيا قبل عام 1991 جزءًا من الاتحاد السوفياتي، وكانت تمتلك أسلحة نووية سوفياتية على أراضيها. وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي، احتفظت البلاد بما يقرب من ثلث ترسانة الأسلحة النووية، وكانت بذلك تحتل المرتبة الثالثة كأكبر قوة نووية في العالم في ذلك الوقت.

إن امتلاك كييف لترسانة نووية جعل منها دولة ذات شأن على الساحة الدولية، ولكن هذا ما لم يكن يرضي الجانب الروسي، ولا حتى الأوروبي، لذا فقد قاموا في 5 سبتمبر/أيلول من عام 1994 بإقناع كييف بالتوقيع على مذكرة بودابست، وذلك لتزويد أوكرانيا بضمانات أمنية فيما يتعلق بانضمامها إلى معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية كدولة غير حائزة للأسلحة النووية.

إن تخلي كييف عن ترسانتها النووية جعل منها لقمة سائغة للأطماع الروسية التوسعية، فكانت البداية عبر ضم شبه جزيرة القرم إلى أراضيها في عام 2014، وبعدها إشعال فتيل الحرب في أوكرانيا بذريعة حماية أمن بلادها القومي، عبر ضم المقاطعات الأربع التي حددتها إلى أراضيها.

وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة كانت في ذلك الوقت طرفًا أساسيًا في المفاوضات التي منحت كييف ضمانات مقابل التخلي عن ترسانتها النووية، فإن هذا لم يمنع روسيا من الاعتداء عليها.

لذا، فمن يضمن عدم تكرار التاريخ نفسه بين روسيا وأوكرانيا؟ ففي هذه الحالة، ستكون كييف قد خسرت الضمانات الأمنية، ومعها معادنها النفيسة، تحت شعار ترامب: "الأمن المهزوز مقابل المعادن".

أمام هذه المشهدية الأوكرانية المعقدة، تقع كييف في مواجهة مأزق حقيقي، فلقد بات الجميع يتفاوض بشأنها لتحسين شروطه. لذا، فإن قول زيلينسكي لترامب في تلك الليلة العاصفة، بأن بلاده لا خيار لها سوى الحرب، يندرج ضمن إطار التمسك بمبدأ واحد لا حياد عنه، ألا وهو الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، وذلك للحصول على الضمانة الوحيدة الرئيسية، وهي المادة 5 من معاهدة حلف الناتو التي تنص على أن أي هجوم مسلح ضد إحدى الدول الأعضاء، يعتبر هجومًا ضد جميع الأعضاء، وبالتالي يجب تقديم الدعم العسكري اللازم لردع العدوان.

هذا ما يجب أن تحظى به كييف من هذه الفوضى العارمة، إذ يجب ألا تثق بأي مفاوضات، حتى لو كانت واشنطن أو أوروبا هي الضامنة، فما حدث لها اليوم قد يتكرر في المستقبل.

لذا، فإن أي إخفاق في طريق الانضمام إلى حلف الناتو، قد يدفع بكييف إلى سلوك طريق الشرق نحو الصين، لتوقيع الاتفاق المنشود بهدف الحصول على ضمانات من بكين القادرة على التأثير المباشر لكبح جماح أطماع روسيا، ومعها الولايات المتحدة، ووضع أوروبا أمام استحقاق جاد قد يحثها على الدفع بانضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي أولًا، ومن ثم إلى حلف الناتو لاحقًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة